الثلاثاء، سبتمبر 20، 2011

خطيه//



بقلم : مازن مريزة
 
(والله أحنا خطية ) ، هذه العبارة بدأت أرددها مع نفسي بكثرة في الآونة الأخيرة ، ولمن لا يعلم معنى (خطية) باللهجة العراقية الدراجة ، أقول له بأن معناها ( مساكين ) ، نعم مساكين ، فهؤلاء المساكين تجاوز عددهم ربما الثلاثين مليون (خطية) ، ويعيش هؤلاء الثلاثون مليون مسكين منذ وضعهم الله فوق هذه البقعة المباركة ، أرض العراق ، أرض السواد لشدة خصوبة تربتها ، أرض الأنبياء والأوصياء والصالحين ، ولسوء حظهم توسدوا فوق بحار من الذهب الأسود ، وعلى حقول جبّارة من الغاز الطبيعي ، وبين شبكة من الأنهار التي حبّاهم بها الله دون غيرهم ، ويملك هؤلاء المساكين تاريخا مغرقاً في القدم تمتد جذوره إلى آلاف السنين ، يرتبط بأسماء أججت عظمته بعظمتها منهم أنبياء ومنهم أوصياء ومنهم أئمة صالحون ومنهم علماء و...... ، وهؤلاء الخطية فعلا مساكين ، لأنهم يعرفون بإتقان كيف يفكرون ويبدعون ويكتبون ويرسمون ويشعرون ، وكيف يتغلبون على محنهم ومآسيهم بابتسامة رضا من ثغورهم الطيبة التي ترك عليها الجوع آثار سياطه اللاهية بمعاناتهم ، وكيف يصبرون على مظلوميتهم المستدامُة – بفعل فاعل – وإن تعددت أسماءه وعناوينه وأشكاله ، حتى أتقن هؤلاء المساكين ، طريقة لا يتقنها أحد في هذه الدنيا سواهم ، في ابتداع خزائن جديدة في أخاديد عميقة بين جبال الذاكرة العامرة لحفظ تلكم الأسماء والعنوانين ، و هؤلاء المساكين أيضا لهم مسميات كثيرة ، مثل : العراقيين ، أبناء الرافدين ، أولاد الملحة ، ولد المظلومة ، .... ، فالمسكين الواحد من هؤلاء ، لا يعيش مثل  باقي خلق الله في باقي دول العالم الأول والثاني والرابع والخامس ، فهو يبدأ يومه البائس  باستخدام أولى حواسه بلا إرادة منه على ضجيج المولدات بدلاً من تغريد البلابل وخرير المياه ومعزوفات الطبيعة الأخرى ، وثاني حواسه على رائحة الوقود المحترق ودخان تلك المولدات المتهرئة ، بدلا من عبق الأزهار والورود ، ويمّتع أنظاره المرهقة بتلك الوحوش الحديدة المزمجرة التي لم تتمكن ألوانها البراقة المتعددة من إضفاء بعض الألفة لوجودها اللصيق جواره ليل نهار ، وحينما تنتهي المرحلة الأولى من امتلاك هذا المسكين لزمام حواسه بصورة كاملة ، ينهض لممارسة دوره التالي في المرحلة الثانية ، وهي مرحله تناوله إفطاره الصحي جداً ، والذي يتكون عادة من شاي مكّون من : ماء عكر غير صالح للشرب مغلي مع بضعة وريقات من الشاي الأسود ( المخلوط بأشياء ) لا يعرف كنهها إلا أباطرة وزارة التجارة الميمونة ، ومن خبز مليء بالحصى والشوائب ، ومن لقيمات من جبن العرب ( الذي قد يكون خاليا من حمى مالطا أو الحمى القرمزية ) وهما صديقان عزيزان لهذا المسكين منذ عقود حتى  أصبحا لا يؤذيانه إلا في الحالات القصوى ، وحينما تنتهي المرحلة الثانية بنجاح ساحق ، يبدأ بتهيئة ذهنه للولوج إلى المرحلة الثالثة ، وهي مرحلة ارتداءه لملابسه ، فهو لا يستطيع ارتداء بذلة وربطة عنق خوفا من أن تمزقها كراسي ( الكية) ، أو أن يظن به الآخرون الظنون ( علاسّة المنطقة ) وهؤلاء الآخرون هم خطية أيضا لأنهم يفتقرون لأبسط صفات الإنسان ، وبالتأكيد هم يعرفون بأنهم خرجوا من خانة تصنيف البشر ، منذ أن آثروا لأنفسهم  تلك المهنة الحقيرة التي خلقتها ظروف الحرب ، أما صاحبنا المسكين ، فهو لا يستطيع من خلال مزاولة دوره بالمرحلة الثالثة من ارتداء العديد من الأزياء التي يرغبها أو حلق لحيته بالطريقة التي يتمناها حتى لا يُحسب على هذه الطائفة أو تلك الفئة ، حتى أنه لا يستطيع لبس الخاتم الذي يشاء وفي اليد التي تريحه أكثر لذات السبب ، وحينما تجرجره قدميه خارج أبواب قفصه ، يبدأ بترديد ما تجود به ذاكرته من أدعية مأثورة وآيات قرآنية ، ويسأل الله ألف مرة بأن يبعد طريق المفخخات واللاصقات عنه ويبعده عن طريقها ، فلا ضرر ولا ضرار ، وبعد دقائق من خروجه للشارع يتضاعف وزن ملابسه بسبب العرق الذي يبدأ بالتقاطر من جميع مسامات جسمه التي أعطبت العواصف الترابية طريقة عملها الطبيعية ، وذرّات الغبار التي لم تترك مكانا في جسده إلا واستقرت في بعضه ، حتى أنها بنت قاعدة شبه إسمنتية في حواف خياشيمه ، التي باتت تعمل بنصف طاقتها بسبب الغبار والحر الخانق وعدم توافر وسائل تهوية أو تبريد مناسبة ، وبمناسبة الحديث عن الطرقات ، فأن لهذا المسكين معرفة عالية في مسالكها ومخارجها ، بسبب تجنباته اليومية ، لدكاكين الدائنين ، وصاحب البيت ، ومشغل المولدة ، ولكنه يمر بكل فخر وهامته مرفوعة من أمام دكان القصاب ( الجزار) ، لأنه الدكان الوحيد الذي لا يسأله ديناً ، فهذا المسكين أصبح من النباتيين منذ زمن ليس بالقصير ، منذ أيام الحصار المرير، وأصبح من دعاة حقوق الحيوان رغما عن أنفه المليء بروائح المياه الآسنة التي تجمعت عند أطراف محلته ، كبحيرة خالدة ، لم يعرف طريقها بعد مصوري قناة ( ناشيونال جوغرافيك ) للحصول على العشرات من براءات الاختراع  لأنواع جديدة من الحشرات والكائنات التي تنتظر من يكتشفها بعد ، وعندما يهّم بالخروج من تلك البحيرة قد تتذكر زوجته فجأة أنها نسيت تذكيره بدفع فاتورة الكهرباء التي تزورهم يوميا بمعدل سويعات شحيحة – حتى لا يتم قطعها نهائيا – ، وتمسك هاتفها الخلوي  وتحاول أن تتصل بالمسكين ، ولكن هيهات فالشبكة مشغولة دوماً وأبداً ، على الرغم من أنه لم يبتعد عنها سوى مئات الأمتار ، وحينما يصل قريبا جدا من مكان عمله ، يفاجأ بقطع الطريق لمرور أحد المسئولين بموكبه المهيب الذي يضّم عشرات المركبات منها المصفحة ومنها الفارهة ومنها التي تحمل خرطوما معدنيا ينتصب بفضاضة من بين الرؤوس المقنعة بنظارات سوداء سميكة تخفي خلفها عيون غاضبة طغت عليها نظرات  الازدراء والتحدي ، فيضطر المسكين لانتظار مرور  الموكب، وقد يأتي بعده مسئول آخر أو رتل عسكري ، ليبقى المسكين منتصبا متمنيا على  الشمس أن تضفي المزيد من سمرتها البرونزية على سحنته الصفراء من طول تعب وسهاد ، وتتكرر بالتأكيد معاناته مع المولدة والكهرباء والحر والجو الخانق في مكان عمله ، دون أن يتذكر في أي مرحله من مراحل يومياته قد وصل ، وحين يعود متهالكاً إلى بيته في نهاية يوم عادي يجلس المسكين ليلتقط أنفاسه وقبل أن يسأل زوجته إن كان لديها قدح ماء بارد تبادره باللهجة العراقية (( هاي شبيك أشو من جيت يمي قلبت خلقتك ) .
لا نعني بذلك أن كل العراقيين يعيشون تلك اليوميات المزرية ، فهناك بلا شك تباين واضح ، أفرزته ظروفا غير طبيعية ، جعل من ذلك التباين سمة واضحة من سمات المجتمع العراقي المعاصر ، يعيشها الملايين ، بلا مستقبل واضح يتكّل عليه ، وقت تبدأ ماكينته البشرية بالتراجع والتلكؤ في أدائها الطبيعي ، دون أن يدرك أن ذلك العطب السريع سببه ضعف الضوابط الاجتماعية والصحية  ولكنه بالتأكيد سوف يدرك أنه استهلك نفسه بسرعة بسبب لعبة مستمرة لا نهاية لها وُضع فيها بلا إرادة منه، ومما يرّسخ لذلك التباين وصولاً للأجيال القادمة ،وجود فئة متنعمة من مصلحتها  تراكم طبقة الأزمات فوق رؤوس أولئك المساكين ، الذين لم ينهكهم بعد ثقل تلك الأزمات إلى درجة التخلي عن المطالبة بحقوقهم في أبسط صورها ،والتي تتركز في توفير الخدمات الأساسية ، كتلك المتوافرة بلا تعقيد ولا مِنّة في الدول المجاورة للعراق أو تلك التي على شاكلته ، مثل إصلاح منظومة الكهرباء التي عجزت الحكومات المتعاقبة عن إصلاحها منذ ثمان سنوات ، وترقيع شبكات المياه النقية ، وإنشاء شبكات الصرف الصحي ، والمطلب الأكثر إلحاحا المُتمثل بتحقيق وضع أمني طبيعي ، يوفر للمواطن الحد الأدنى من الراحة النفسية في تحقيق حلمه في التخلص من القيود والإجراءات الاحترازية الكثيرة التي فُرضت عليه منذ عقود ، تحت أسباب ومسميات كثيرة ، ورفع حالة الشك العامة التي قد تتلبسه في أي لحظة ، وتمكّينه من قيادة مركبته بأمان الله  دون أن يواجه سلسلة من الحواجز الكونكريتية الصماء ، التي تستنزف منه الكثير من الوقت والجهد والمزاج ، وان يذهب إلى أي دائرة رسمية دون أن يقفز في وجهه من يطالبه بدفع المقسوم ، وأن يتخلص إلى الأبد من معاناته الشهرية دونما حاجة لاستخدام المعادلات الرياضية المعقدة في كيفية بسط أجنحة الراتب الرقيقة ومفردات البطاقة التموينية الهشة على كل أيام الشهر، وأن لا يفكّر كثيراً بان هناك الكثير ممن يعلقون على جدران مكاتبهم الفخمة العديد من الشهادات المزورّة ويتقاضون عليها ملايين الدنانير دون وجه حق ، وانه هو والكثير ممن على شاكلته لا يكفيهم ما يتقاضونه من الحكومة العراقية لسداد نفقات المولدة الأهلية ، وشراء بعض الجالونات من الوقود لمولدته المنزلية في صيفً خمسيني حارق،ولهذا المسكين طلب أخير ، فهو يتمنى على السادة المسئولين الميامين أن يتوقفوا عن إطلاق التصريحات والوعود الفارغة في الهواء إن لم يتمكنوا فعلاً من تحقيقها ، وأن يتوقفوا قليلا عن مهاتراتهم المملة ، ويتفرغوا قليلاً لخدمته كما وعدوه ، وأن يحترموا ذهابه إلى صناديق الاقتراع يوماً ،إنها مجرد أمنيات لهذا المسكين المغلوب على أمره ، وربما هناك أمنيات ضرورية أخرى غابت عن ذاكرته المتعبة بهموم يومه الطالح وهواجس غده الكالح ، ولكن بالتأكيد لن تخذله ذاكرته عن تذكر الكثير مما حل به ، حينما يفكر في تلوين أصبعه مرة أخرى ، وهو بالتأكيد لن تمنعه ذاكرته الموجوعة ، من أن يستمر بالتفكير والاستنتاج للتوصل إلى حلول مسالمة ومعقولة ، كي لا يكون هو الضحية والخاسر الأكبر مرة ثانية في المعادلة التي شارك بكتابتها
منقول بأمانه/افكار ربما جالت بخاطري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حاولنا وفشلنا

  بعد عشر سنوات تجرعنا بها آلام عشرات المفخخات (السنيه ) التي تحصد ارواح ابنائنا بلا تمييز بين مدرسه او مسجد او سوق !!! أجبرونا على الرد,...